"بيردمان" نكهة مكسيكية في افتتاح مهرجان البندقية السينمائي
- Author, صفاء الصالح
- Role, بي بي سي / البندقية
للعام الثاني على التوالي يفتتح مهرجان البندقية السينمائي بفيلم لمخرج مكسيكي من إنتاج أمريكي.
وإذا كان عرض فيلم “جاذبية” للمخرج الفونسو كوارون في الموسترا فاتحة نجاحات متعددة حققها في مهرجانات السينما ونيل جوائزها، إذ حصد العديد منها (من بينها 7 أوسكار و6 جوائز بافتا)، فإن النجاح لا يمكن أن يكون وصفة مكررة.
وكان لافتتاح الدورة 71 من المهرجان بفيلم المخرج اليخاندرو غونزاليس اينارتو “بيردمان”ـ رجل طائر، طعم المطبخ المكسيكي اللاذع على شاطئ البندقية الساحر. فهو عمل حرص مخرجه على أن يكون مبهرا واشكاليا في موضوعه وفي بنائه الفني بل واستعاراته وأسسه الجمالية النظرية، لكنه اختنق بكل ذلك وبدا مزدحما بتلك التفاصيل مفرطا في عرضها حتى بات أقرب إلى السقوط في ما ينتقده، عبر سخريته السوداء، من واقع التسطيح الذي تفرضه أنماط الثقافة الشعبية وتعممه وسائل الاتصال على عالمنا المعاصر.
لكن حشد النجوم الذين قدمهم الفيلم زين حفل افتتاح المهرجان بما شغل الصحفيين الباحثين عن الأضواء والجمهور المتلهف للنجوم وحضورهم الفاتن على السجاد الاحمر، فالتمع على مدخل الصالة الرئيسية للمهرجان وسط صرخات حمهور المعجبين وفلاشات كاميرات المصورين، مايكل كيتون وادوارد نورتن وايما ستون واندريا ريسبورو في حفل الافتتاح الذي حضره رئيس الجمهورية الإيطالية جورجو نابوليتانو.
لقد حرص اينارتو على أن يفاجئ الجميع بنمط أداء فني مختلف عما درج عليه واشتهر به في أفلامه السابقة (اموريس بيروس، 21 غرام، بابل،بيوتفل)، فانتقل في فيلمه هذا من الحبكات والخيوط الدرامية المتعددة إلى التركيزعلى لحظة محددة في حياة ممثل شهير مأزوم وفي مكان محدد هو المسرح.
إلا أن تعدديته انتقلت هذه المرة من الحبكة والسرد إلى موضوع التعبير الفني، حيث اختار اينارتو المزواجة بين العديد من القضايا المتناقضة الفن والحياة، الواقع والخيال، المادي والروحي، السامي والمبتذل، الواقعي والسوريالي، ضمن سياق ما بعد حداثي، جعل من لغته السينمائية لغة شارحة لا تكتفي ببناء العمل الفني بل وتشرح آليات الوصول الى ذلك في الوقت نفسه.
واقعية قذرة
و حاول اينارتو ترسم أسلوب ما عرف بأدب “الواقعية القذرة” في الأدب الأمريكي، وعكسه سينمائيا، فانطلق في بناء فيلمه من اقتباس عن أحد أقطاب هذه الحركة الأدبية، الشاعر والقاص ريموند كارفر(1936 ـ 1988) (وله بالعربية مجموعة قصصية مترجمة منتصف الثمانينيات)، وتحديدا قصته القصيرة “عم نتحدث عندما نتحدث عن الحب؟”، فبدا اقتباسه حرا لأجواء القصة التي نقلها إلى فضاء مسرحي، وحرص على أن يأخذ روح أسلوب كارفر، ليمسك مبضع جراح ويفكك كل الاستار التي تحوط بطله وليفكك مركبات شخصيته الرئيسية النفسية ودوافعها، من دون أوهام أو عظات أخلاقية، بل في مناخ من السخرية المرة منها.
افتتح إينارتو فيلمه بقصيدة شهيرة لكارفر، نقشت على شاهدة قبرة تقول ما معناه “ومع ذلك، هل حصلت على ما تريد من هذه الحياة؟ أجل فعلت. وماذا أردت؟ أن أدعو نفسي محبوبا، وأن أشعر بنفسي محبوبا في هذه الأرض”.
عن الأدوار التي نؤديها في الحياة وفي الفن كان فيلم “بيردمان” الذي حمل عنوانا ثانويا هو “فضيلة الجهل غير المتوقعة”، من هنا كان اختيار اينارتو لأزمة ممثل يدعى ريغان تومبسون (الممثل مايكل كيتون) اشتهر بشخصية نمطية مأخوذة من مجلات الكوميكس والثقافة الشعبية، يحاول معالجة شهرته التي أخذت تخبو واستعادة مجده، فضلا عن الخروج من النمط التمثيلي الذي حصرته الثقافة الشعبية فيه ولا يستطيع النقاد رؤيته خارجه، بتقديم عرض مسرحي في مسارح برودواي مأخوذ عن قصة كارفر. ويوفر هذا مدخلا لتقديم التداخل بين الفن والحياة، فيزواج بين أدوار ريغان في الفن وأدواره التي يؤديها في الحياة.
وفي زحمة من تفاصيل الحياة اليومية نتابع رحلة ريغان في البحث عن نفسه وسط ركام ثقافة الاستهلاك، بيد أنه حتى هذا البحث (الوجودي) نراه يظل محكوما بهذه الثقافة، فنرى في ريغان خلطة غريبة من مبالغات الكوميكس والثقافة الشعبية واستعارات من الفن والتفكير الجمالي (العالي). على سبيل المثال لا الحصر، اختار اينارتو أن يجعل شخصيته تتمتع بقدرات روحية خارقة فهو قادر على تحريك الأشياء من أماكنها بالتركيزعليها، بل واستخدامها بطريقة غريبة كإسقاطها فوق رأس ممثل لم يعجبه، لكنه في الوقت نفسه إنسان عادي بالغ الضعف في مشاهد أخرى.
ونراه يطير في أحد المشاهد ليصل الى المسرح، لكننا نرى سائق سيارة أجرة يركض خلفه إلى المسرح لأنه نسي أن يدفع أجرة الوصول الى المسرح الذي رأيناه يطير إليه، على هذه الحافة بين الحلم والواقع وبين الشعبي السطحي (الكيتش) والثقافي (الرفيع) ظل اينارتو يلعب طوال فيلمه ضمن حس نقدي لاذع مغلف بسخرية سوداء.
ونشاهد أن ما يمنح ريغان هذه القدرات الخارقة هو شيطانه الذي يرافقه ويحادثة غالبا في غرفة المكياج الخاصة به في المسرح، ويظهر في صورة “الرجل الطائر” شبيها ببوستر الشخصية التي اشتهر بأدائها.
وقد استخدم المخرج صوت كيتون نفسه مضخما في حديثه فبدا الحوار بينهما أشبه بالمونولوج والحوار مع الذات.
تنافس أدائي
ولا يبدو اختيار الممثل مايكل كيتون لأداء هذا الدور بعيدا عن طبيعة حياته الشخصية في الفن وتشابهها في كثير من الجوانب مع شخصية ريغان التي يؤديها، فهو ممثل ظل محاصرا بالنمط الأدائي في أفلام التسلية التي مثلها، وظل الجمهور يذكره عبر أدائه لشخصية “الرجل الوطواط” المستعارة من مجلات الكوميكس التي طغت على أعماله الأخرى.
ونرى ريغان محاطا بشخصيات أخرى، أمثال ابنته سام (ايما ستون) التي تعاني من مشكلة إدمان والخارجة من تجربة علاج، والتي تمثل أيضا وعي جيل آخر غير جيل ريغان ومايك من بعده وامها، زوجته السابقة، والمنتج المسرحي وصديقه القديم (زاك غاليفياناكس)، وممثلة شابة (أندريا ريسبورو) تطمح بإقامة علاقة عاطفية معه.
وفي سعيه لانجاح مسرحيته يختار ريغان ممثلا متدفقا في مشاعره ابنا للحياة، فوضويا، وساعيا وراء غرائزة، لا يتواني عن محاولة اغتصاب الممثلة التي يمثل معها مشهدا في السرير أمام جمهور المسرح، فمايك (يؤدي دوره الممثل ادوارد نورتن) يستبدل به ممثل سابق في المسرحية لكنه يحاول أن يسرق الأضواء بحضوره وبأدائه المميز من ريغان. وهذا ما تحقق بالفعل في الفيلم إذ استطاع نورتن بحضوره المؤثر وادائه الرائع أن يسرق الأضواء من كيتون في الفيلم نفسه، فقدم أبرز أداء تمثيلي في هذا الفيلم الحافل بالممثلين.
لقد سحرنا نورتن (كما سحر مايك ريغان في الفيلم) منذ المشهد الأول لظهوره في الفيلم الذي قدم فيه درسا في التمثيل والانتقال بين مشاعر متناقضة بسرعة شديدة وببراعة تجعلك تظن انه يؤدي بتلقائية شديدة دون دربة أو صنعة.
وبعد سلسة من المواقف والانفعالات والخيبات، الذي يجمع بينها أنها ظلت تحمل طابع المبالغة في الانفعال وفي الغرابة، وتقف على حافة الميلودراما، وما ينقذها من السقوط فيه هو تلك السخرية السوداء التي طبعت الفيلم، نصل إلى الذروة مع المشهد الذي يواجه ريغان فيه امرأته مع شخص آخر في المسرحية فيقول لهم إنه غير محبوب وانه وجوده في هذه الحياة كان لا شيء لينتحر في ختام المسرحية، المشهد الذي كرره المخرج كثيرا بمسدس لعبه، لكنه في المرة الأخيرة يستخدم مسدسا حقيقيا.
وبدلا من موت ريغان، يواصل اينارتو سخريته ومبالغاته، لنفاجئ أنه في المستشفى وأن الإطلاقة لم تصب سوى أنفه، ومع دخول ابنته بالورد الذي يحبه وذهابها لجلب مزهرية لوضعه فيها، تعود فلا تراه في فراشه والنافذة مفتوحة على مصراعيها. فتنظر من النافذة لا ترى شيئا ساقطا أسفلها. فتنظر الى السماء، ليعيدنا المخرج إلى مشهد البداية الذي افتتح به فيلمه مع تتبع شهاب يسقط ملتهبا في السماء.
العلاقة بين الفنون
ويستثمر اينارتو ذلك ليبني مشهديته في إطار العلاقة بين الفنون، وبالدرجة الاساس المسرح والسينما،فضلا عن السرد الأدبي الذي استعير العمل منه، والفضاء الجمالي النظري الذي يتحدث عن الفن، مما يجعل لغة الفيلم لغة شارحة (ميتا- لغة) لا تكتفي بتقديم عمل سردي بصري بل وتشرح في الوقت نفسه آلياته. كما جعله يمتلئ بالاستعارات والاستشهادات من أعمال نقدية نظرية كأعمال المفكر الفرنسي رولان بارت، أو القاص كارفر الذي أخذ العمل من قصته وقصائده كما أسلفنا، أو من شكسبير (قدم استخداما رائعا لصوت رجل يردد كلمات من ماكبث لنراه لاحقا يؤدي المشهد بطريقة مبالغة في الشارع) بل ومن الثقافة الشعبية التي يحيل إليها في أكثر من حوار أو يستشهد ببعض نجومها كجوستن بيبر.
تعاون اينارتو في هذا الفيلم مع مدير تصوير قدير كان أحد أبرز عناصر النجاح في الفيلم، هو المكسيكي ايمانويل لوبيزكي، اشتهر بعمله مع مواطنه المخرج الفونسو كوارون في معظم أفلامه ومنها “اطفال الله” و”جاذبية” الذي نال عليه أوسكار أفضل تصوير، فضلا عن عمله مع مخرجين كبار مثل مارتن سكورسيزي وتيرينس مالك (3 من أفلامه) وكوين بروذرز.
ونجح لوبيزكي في التعامل مع جماليات المكان المغلق، لا سيما في تلك الحركة للكاميرا (ترافيلنغ) التي تعكس توترا، في المسافة بين غرفة مكياج ريغان وخشبة المسرح، حيث دارت معظم أحداث الفيلم، وتكرر هذا الترافلينغ في الممرات على مساحة واسعة من الفيلم.
كما حرص مدير التصوير على تحقيق وهم الاستمرارية في مشاهد طويلة رغم أن بعضها يمتد على مساحة زمنية واسعة، كما هي الحال في متابعة العمارة من الليل إلى الفجر والصباح مع تغير الضوء ومواصلة مشهد جديد من النقطة نفسها، وهو حل بصري تكرر في أكثر من مشهد.
وخلص لوبيزكي اينارتو من اسلوب الكاميرا المحمولة ولقطاتها المهتزة التي توحي بالواقعية الذي عرف به المخرج، لنرى لقطات طويلة ومشاهد متواصلة تتجنب القطع الحاد وتوحي بالاستمرارية. وبدت تأثيرات المخرج القدير هيتشكوك (أفلام مثل الحبل، والنافذة الخلفية) واضحة فيه.
كما نجح هذا الاسلوب في التعامل مع بنية اينارتو المشهدية المعقدة، حيث ينثر العديد من التفاصيل والشخصيات وسط ايقاع متوتر، وهذا ما كنا نشاهده في الترافلينغ في الممرات حيث تمر الشخصيات خاطفة وتشارك بأفعال وحوارات سريعة بل حتى في كشف مصدر الموسيقى مع عازف الدرامز الذي أظهره في إحدى الغرف المطلة على الممر أو في الشارع في مشهد آخر.
اعتمد اينارتو على ضربات الدرامز الصاخبة من موسيقى الجاز التي شكلت العمود الفقري للموسيقى التصويرية (وضعها انتونيو سانشيز) في معظم مشاهد الفيلم (بدا اينارتو حياته المهنية موسيقيا ومخرجا للموسيقى في الإذاعة) وهي بدت فظة عنيفة منسجمة مع الصخب والتوتر الذي تعيشه الشخصيات، وإن بدت مزعجة للبعض ممن اعتاد على الموسيقى المنسابة وعذوبة الميلودي.
بعد هذا البناء المعقد وزحمة الأفكار والاستعارات التي قدمها اينارتو في الافتتاح الرسمي للمهرجان، حرص منظمو المهرجان على خلق نوع من الهارموني في فيلم افتتاح تظاهرة آفاق في المهرجان مع فيلم المخرج الإيراني المقيم في فرنسا “الرئيس” إعادتنا إلى الواقع السياسي المعاصر ومشاهد سقوط الديكتاتوريات الأخيرة وهو ما سنتوقف عنده في مقال لاحق.
إرسال التعليق