وقفات على أبيات أبي ذؤيب الهذلي
نستكمل ما بدأناه في المقالة السابقة ووقفاتنا مع الشاعر المخضرم أبي ذؤيب الهذلي,وكنا قد أشرنا أيضاً إلى الغاية من فكرة تناول نصاً مثل هذا وتحليله تحليلاً نقدياً بلاغياً جمالياً في مقالة,وأن ذلك بمثابة قفزة للخروج هرباً من انغماس الفن في وحل الإضمحلال إلى بساتين الجمال والذوق الفني والإبداعي,ومحاولة لا بأس بها للتعلم ممن سبقونا,وأخذ العِبر منهم من خلال أشعارهم لأنها تعكس انفعالاتهم وتأثرهم ومشاكلهم وقضاياهم فكان الشعر المرآة التي تعكس ذلك،وفي جميع الحالات نحن في النهاية المستفيدون لما سيعود علينا من استحسان الذوق ومحاولة الخروج من أشعارهم بالعظة والفائدة.
ونستأنف مقالتنا بالبيت الثاني للشاعر والذي يقول فيها:
– قالت أمَيمَةُ مَا لِجِسْمِكَ شَاحِبَاً مُنذُ ابتَذَلتَ ومِثلُ مَالِكَ يَنْفَعُ
وهنا يبدأ حواراً سريع الانتهاء بين الشاعر وزوجته التي اختلقها,نلاحظ تدخلها وكأنها ومضة مضيئة تنتشله من حزنه وأفكاره السيئة في التحسر والجزع المنبوذ الذي يدفع المرء إلى الاعتراض على قضاء الله,وتقول له ما لجسمك قد تغير لونه وذبلاً وأصبحت كالفقير في هيئته رغم ما لديك من مال, كما أنها استخدمت لفظة (جسمك) ولم تقل جسدك أو بدنك,ونستشعر من ذلك مدى تقربها أو أنها قد عاينته تماماً في وضعه الشاحب الذابل في وضع ذهول منها.
وتكمل :
– أم ما لِجَنْبِكَ لا يُلَائِمُ مَضْجَعَاً إلَّا أقَضَّ عَلَيْكَ ذَاكَ المَضْجَعُ
وهنا تسأله متعجبة بإشفاقٍ منها,مالك لا تذق للنوم طعماً,واستخدمت جنبه لتصور تقلبه يميناً ويساراً وتصور مدى قلقه عدم راحته بل وأي مكان ينام فيه لا ينام فيه إلا وقد أهلكه ذاك المضجع والمضجع هو المكان الذي يأوي إليه الشخص للنوم,وهذا يصور لنا مدى فاجعته,فنحن ما إن تشغلنا مسألة ما لا نرى للنوم سبيلاً,فما بالنا بصاحبنا قد مات أولاده جميعهم مرة واحدة!
أما البيت الرابع ففيه إجابة وافية لأستفهام زوجته الاستنكاري قائلة (مال لجسمك شاحباً , أم ما لجنبك لا يُلائم مضجعاً)
فيجيبها قائلاً:
– فأجبتها أن ما لجسمي أنه أودى بني من البلاد فودعوا
ونلاحظ استخدام الشاعر لحرف الجر (فاء) ولفظة (إجابة) ليوضح لنا تلهفه وسرعة إجابته لها ومحاولة البوح بما جعله بهذا الحال من شحوب وعدم راحة وقلة نوم,وكأنه كان يتوق شوقاً لمن يحاوره ويخفف عنه أو يسأله ويدفعه للبوح بما يؤلمه،بدلاً من الصمت والحزن المميت ولوم نفسه دائماً, قائلاً أن ما أصابه من شحوب هو موت أبنائه في عامٍ واحدٍ واحداً تلو الآخر وهو مكتوف الأيدي لا حيلة له في ذلك,ولنا لقاء آخر في أبيات أجمل في المرات القادمة إن شاء الله .
إرسال التعليق