وقفات على أبيات أبي ذؤيب الهذلي
من الأمور الجميلة التي يمكنك ممارستها في حياتك اليومية أن تقرأ الشعر,ولن أصعب عليك الأمر وأقول لك احفظه,وإن كان في حفظه أيضاً الكثير من الفوائد الجميلة لك,حيث أنه يرتقي بذوقك واختيار ألفاظك في أي مقال تقوله أينما كنت،والأجمل أن تكون لديك ذائقة لغوية تمكنك من تذوق الشعر وتذوق الألفاظ في أي عملٍ أدبي أي أن كان زمنه,والتنقل كالفراشة بين زهرة وأخرى وكل بستان وآخر،كذلك تنقلك بين قصيدة وأخرى لشاعرٍ معين, أو تنقلك بين شاعر وآخر,أومرحلة شعرية وأخرى مختلفة عنها تماماً,كأن يكون أحدهم جاهلياً وآخر مخضرماً على سبيل المثال،ومحاولة الوقوف على أبياتهم والعثور على المفاتيح التي تؤيد مدى تأثر أحدهم بعصر ما,أو اضطرابه بين عصر وآخر وما شبّ عليه وما شاب عليه؟! كالمخضرم مثلاً,والمخضرم كما نعلم هو ما عاش فترتي الجاهلية والإسلام،وهذا ما سنكثف جهودنا عليه وسنعمل سوياً على تعزيز ذائقتنا اللغوية إن شاء الله.
استوقفتني قصيدة شعرية للشاعر المخضرم (أبي ذؤيب الهذلي) وهو شاعر مخضرم, وهذه هي عينيته,وسميت عينية لأن الأبيات قافيتها تنتهي بحرف العين,وكعادة العرب سابقاً يسمون أحياناً القصائد باسم آخر حرف من البيت,كأن تكون عينية أو لامية أوغير ذلك،وفي هذه القصيدة الشاعر يتألم ويتوجع بسبب موت أبنائه الخمسة فكانت بالنسبة له فاجعة,ويتضح ذلك جلياً من خلال البنية الصوتية والإيقاعية والدلالية للأبيات,ومعاً سنرتقي سوياً بذائقتنا اللغوية.
في أول بيتٍ في هذه القصيدة يقول:
– أمن المنون وريبها تتوجع! والدهر ليس بمعتبٍ من يجزع
بدأ الشاعر قصيدته باستفاهم استنكاري,يستنكر تعجبه من الموت الذي هو الحقيقة الوحيدة في الحياة ,وأن الدهر لا يتأثر بأنين أو ضجر،كما أنه استخدم الفعل المضارع (تتوجع)وفي اللغة العربية ,و”البلاغة” بالأخص, يُستخدم الفعل المضارع لتجدد الحدث أو الفعل ,وكما في اللفظة تتوجع لتصور مدى فاجعته ووجعه الذي لا ينقطع بل متجدد معه كنفسه الذي يتنفسه,أو كالجوع والعطش مثلاً شعوراً متجدداً ملازماً للمرء, كما أنه يوضح لنا مسألة يقع فيها الكثير,أن أغلبنا كبشر عندما نصاب بمصيبة ونبدأ في التأوه والندب ,نظن أن الزمان أو الدهر ستأخذه رأفة بنا,ويربط على قلوبنا ما إن جزعنا وانعزلنا وانقلبنا على أعقابنا قليلاً,ولكن لا فائدة,فهذه ابتلاءات واختبارات تبين من الصبور الشكور ومن الناقم ؟
وأن الحلول ليست فقط في البكاء والعويل،بل في الوقوف صامداً صلداً للتغلب على مصائبك وابتلائك فهنا يكمن الحل والخير,ومن هنا يجب ألا نغفل عن جزاء الصبر على المصاب والابتلاءات التي نواجهها,فلا نجزع ونصبر,بهذا سنصل.
ونلاحظ أيضاً صوت الـ”عين” والذي يبوح أيضاً بالألم ,فلو تأملنا صوت العين في بعض كلمات القصيدة مثلاً نرى(تتوجع_يجزع_مصرع_مضجع )وغيرها من الكلمات التي سنناقشها لاحقاً،سنجد أن الشاعر قد أوفق في اختياره للألفاظ لتعبر هي بنفسها عن وجعه،فصوت العين قريباً جداً من عويل أحدهم وقت البكاء الشديد.ولنا لقاء آخر إن شاء الله مع بيتٍ جديد في هذه القصيدة الرائعة لنرتقِ بذائقتنا اللغوية والبلاغية والإبداعية,هاربين مما نراه ونسمعه هذه الأيام من اضمحلال فني لا فن فيه بالمرة ولا يزيدنا سوى تشوه في الذائقة لدى المرء,فكانت تلك بمثابة ومضة للخروج من ظلمة الإسفاف إلى نور الإبداع والفن الجميل.
إرسال التعليق