مجدي درويش يكتب عن نبى الله داود ” الجزء الخامس “

ونكمل الجزء الخامس مع نبى الله داود عليه السلام، وقد استقرت حياة بني إسرائيل في عهد النبيين الكريمين داود وابنه سليمان عليهما السلام، حينما أعطاهما الله النبوة والملك, فحكما بينهم بشرع الله تعالى، ومن الدروس السياسية هوأن قوة الدولة يورث استقرار البلاد، أما إذا وهنت وصارت ضعيفة فإنه سيعيث الفساد فيها، وتنتشر الاضطرابات المتنوعة في ربوعها، وتؤول إلى الزوال والاضمحلال, وحكم داود عليه السلام حينما كان مبنيا على القوة العادلة استقرت دولته وشعب بني إسرائيل الذي حكمه, ومن الدروس السياسية هو أن العدل وصلاح الحكام من أسباب بقاء الدول وراحة الشعوب التي ترعاها، وقد مضت سنة الحياة على هذا، فكم بقيت دول قرونا متعددة بسبب إقامة العدل وصلاح حكامها، وكم فنيت دول كانت أشد قوة وبأسا بسبب الظلم وفساد ولاتها، ونبى الله داود عليه السلام عندما كان حاكما عدلا ونبيا صالحا استقرت مملكته ونعُم شعبه في ظل حكمه, ومن الدروس السياسية هو أن كثرة علم الحاكم بالدين، وكثرة علمه بأمور الدنيا خاصة المتعلقة بالحكم من أسباب النجاح في الحكم، وهكذا كان داود عليه السلام، ومن الدروس السياسية كذلك أهمية وجود المستشارين الصالحين، والبطانة الصالحة للحاكم المسلم، فإنها سمعه وبصره بين رعيته، يسددونه، ويعينونه، ويصلحون ما أخطأ، ويشيرون عليه بالصواب من القول والفعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما بعث الله من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وقي شرها فقد وقي” رواه البخاري، وهكذا كان سليمان بطانةَ خير لأبيه عليهما السلام، ومن الدروس السياسية هو أن اتباع الحاكم للهوى في حكمه من أسباب تقويض الحكم وخرابه لأن اتباع الهوى سيضله عن الصواب، ويبعده عن الحق في الفصل بين الناس، وتسيير أمور الدولة ولذلك نهى الله تعالى داود عليه السلام عنه، وبين له عاقبته وآثاره السيئة، ومن الدروس السياسية أن يكون الحاكم من أهل العبادة والقرب من الله تعالى حتى يسدده الله في حكمه، ويعمل لدينه كما يعمل لدنيا الناس ودينهم، وقد عمل داود عليه السلام بذلك فكان كثير العبادة والتوبة والأعمال الصالحة، وفي سيرة هذا النبي الكريم عِبر ودروس قضائية، منها هو أهمية القضاء والفصل في الخصومات في حياة الناس، وفي استقرار الدول, فإن الحياة الجماعية التي يعيشها الناس يشوبها الاختلاف والتنازع، والظلم والاعتداء على الحقوق، ولابد لهذا الافتراق من قضاء يفصل التنازع، ويعيد الحقوق إلى أهلها حتى تستمر سفينة الوئام في مخر عباب الحياة بعيدة عن هيجان أمواج الاعتداءات، والقضاة يحكمون في قضايا الناس بناء على أمرين، معرفة الأدلة والقرائن في القضية المرفوعة إليهم.
وإصدار الحكم الشرعي في تلك القضية حسب ما تبين لهم من تلك البراهين، وهم مختلفون في إصابة الحق، فمنهم من يصيب السداد، ومنهم من يقاربه، ومنهم من يبعد عنه، ونبي الله داود عليه السلام أعطاه الله تعالى، قوة الفصل والمعرفة في الحكم في القضايا، وكذلك أعطى ابنه سليمان عليها السلام، ومن الدروس القضائية هو جواز نقض الحكم بالحكم إذا تبين خطأ الحكم الأول، أو كان الثاني أرفق بالخصوم، فالقضاة حكمهم لا يبنى على معرفة الغيب حتى لا يعدلوا عن الصواب، ولكنه مبني على ما ترجح لديهم من القرائن، فقد يصيبون وقد يخطئون ولذلك قد يحكم القاضي لأحد الخصمين بالحق من خصمه وهو ليس له، فيستحق ذلك الخصم الحق المحكوم به قضاء، ولكنه لا يجوز له أن يأخذه ديانة, فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار” متفق عليه، وفي قصة نبى الله داود عليه السلام نقض حكمه في قضية الزرع، وقضية المرأتين، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك.
فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى لا، يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى” والقضاة لا يستوون في معرفة الصواب، فنبى الله داود عليه السلام كان حكمه في القضيتين صحيحا بناء على الأدلة، لكن تبين لنبى الله سليمان عليه السلام حكم هو أرفق بالخصمين من حكم أبيه فحكم به وأقره أبوه عليه، وفي الثانية لاحظ سليمان مخايل الاستحقاق للولد في المرأة الصغرى فاحتال حيلة قضائية صحيحة حتى وصل إلى الحق فحكم به للصغرى، وأمضى أبوه حكمه في هذه كذلك، ومن الدروس القضائية أيضا هو أهمية تحلي القاضي بالفطنة والذكاء، والإحاطة بالطرق المشروعة في استبيان الحق، مثل الحيل الصحيحة، وقد ضرب القاضي إياس بن معاوية أروع الأمثلة في الفراسة واستخراج الحقوق من الخصوم، وقد ذكر المؤرخون عن فطنة إياس وذكائه في القضاء أخبارا عجيبة كثيرة، فمن ذلك هو أن رجلا استودع رجلا مالا، ثم طلبه فجحده، فخاصمه إلى إياس بن معاوية، فقال الطالب إني دفعت المال إليه، قال ومن حضرك؟ قال دفعته إليه في مكان كذا وكذا ولم يحضرنا أحد، قال فأي شيء كان في ذلك الموضع؟ قال شجرة، قال فانطلق إلى ذلك الموضع وانظر إلى الشجرة، فلعل الله تعالى يوضح لك هناك ما يبين لك حقك.
لعلك دفنت مالك عند الشجرة ونسيت فتذكر إذا رأيت الشجرة، فمضى الرجل وقال إياس للمطلوب اجلس، حتى يرجع خصمك، فجلس وإياس يقضي وينظر إليه ساعة ثم قال له يا هذا، أترى صاحبك بلغ موضع الشجرة التي ذكر؟ قال لا، قال يا عدو الله، إنك لخائن، قال أقلني أقالك الله، فأمر من يحتفظ به حتى جاء الطالب فقال له إياس قد أقر لك بحقك فخذه به، وقيل أنه رد رجل جارية اشتراها من رجل غلبه فخاصمه إلى إياس بن معاوية فقال له، لمَ تردها؟ قال أردها بالحمق، قال إياس لها أي رجليك أطول؟ قالت هذه، قال تذكرين أي ليلة ولدت؟ قالت نعم، فقال له إياس، رُدّ رُدّ، وهنا نبى الله سليمان عليه السلام، استعمل حيلة السكين حتى عرف أم الغلام الحقيقية، وأيضا من الدروس القضائية هو أن رجوع القاضي إلى الحق والحكم الأرفق من حكمه يعدّ فضيلة ومنقبة له، وقد روي رجوع بعض الصحابة كعمر وعثمان وأبي موسى رضي الله عنهم أجمعين في بعض الأحكام القضائية, وهنا ظهر رجوع نبى الله داود إلى حكم ابنه سليمان عليهما السلام، ومن الدروس القضائية هو أن خطأ القاضي أو مخالفته للأفضل في الحكم بعد الاجتهاد في تحري الصواب لا ينقص من قدره, ولهذا فإن الله تعالى لم يلوم نبى الله داود على قضائه، بل أثنى عليه، ومن الدروس القضائية هو عدم مشروعية إغلاق الأبواب أمام المتقاضين.
ووجوب تسهيل سبل وصول الخصومات إلى القضاء بالطرق المنظمة، من غير إشقاق على المتقاضين, فعن ابن مريم عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه أنه قال لمعاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول “من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة” رواه أبو داود والترمذي، فجعل معاوية رجلا على حوائج المسلمين, فنبى الله داود عليه السلام لو كان بينه وبين الناس حواجز وفواصل لما وصل إليه الخصمان وحصل ما حصل، ومن الدروس القضائية هو جواز قول المستقضي للقاضي، احكم بيننا بالحق، أو اقضِ بيننا بكتاب الله، أو لا تجُر في حكمك، ولا يعدّ ذلك تهمة للقاضي، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما، أنهما قالا إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه نعم، فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي” وفي قصة نبى الله داود عليه السلام، قال تعالى كما جاء فى سورة ص ” فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا سواء الصراط ” ومن الدروس القضائية هو أن على القاضي الانتباه إلى أن فصاحة اللسان والغلبة في الكلام وإيراد الحجج لا تجعل صاحبها صاحب الحق لديه، فكم من حق عيّ اللسان عن إظهاره،
وكم من باطل أظهره حسن الكلام وفصاحته، ومن الدروس القضائية هو إرجاع الرعية ما اختلفوا فيه من الحقوق إلى القضاء حتى تفصل القضايا ولا تتطور إلى سوء أكبر، ولكي يعود الحق إلى صاحبه، ويعم الأمن والاتفاق بين الناس، وقد كانت قصة موته كما جاء عند الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “كان داود النبي فيه غيرة شديدة، وكان إذا خرج أغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحد، حتى يرجع، قال فخرج ذات يوم وغلقت الدار، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت، من أين دخل هذا الرجل الدار والدار مغلقة؟ والله لتفتضحن بداود، فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود من أنت؟ قال أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا يمتنع مني شيء، فقال داود أنت والله، ملك الموت، فمرحبا بأمر الله فقبضت روحه في مكانه” رواه أحمد، وقال ابن كثير، وإسناده جيد قوي، ولقد كان في حياة هذا النبي الكريم محطات مهمة متنوعة تستدعي الوقوف عندها لأخذ العظة والعبرة، فإن دراسة حياة الأخيار دراسة تدبرية عميقة يعطي الدراس والسامع والقارئ أنوارا تضيء طريق العبد إلى ربه تعالى، وحياة العظماء بهداياتها وإضاءاتها بعد موتهم أمد منها قبل وفاتهم، وفي حياة نبي الله داود عليه السلام دروس وعبر منيرة، في جوانب كثيرة من الحياة.

إرسال التعليق

قد يعجبك ايضا