مجدي درويش يكتب عن نبى الله داود ” الجزء الثانى “
ونكمل الجزء الثانى مع نبى الله داود عليه السلام، وأنه يجب علينا أن نعتقد أن عصمة الأنبياء الكرام تقضي بعدم صحة ما ورد في بعض كتب التفسير والتاريخ من قصة المرأة مع نبى الله داود عليه السلام، فإن ذلك المنسوب إليه معيب في حق أدنى المؤمنين فضلا عن الأنبياء والمرسلين، وأما عن قصة القائد المزعومة فإن أهل الإيمان والأخلاق العالية يتنزهون عن هذا الفعل الدنيء من النظر الحرام إلى المرأة، ثم تدبير حيلة التخلص من زوجها، وهي حيلة لقتل لبريء وتخلص من صاحب مساعد، فإذا كان هذا لا يليق بهؤلاء فكيف بنبي أثنى الله تعالى عليه؟ وإن الخصومة التي حكتها الآيات خصومة حقيقية، وادعاء أنهما ملكان ليس عليه دليل، والأصل حمل الأشياء على حقيقتها حتى يقوم دليل صحيح ينفي الحقيقة، وأن مثل ذلك يقال في معنى النعجة، فالمعنى الحقيقي لها معروف أنه في الغنم، وصرفه إلى المرأة معنى مجازي لم يقم عليه دليل، والقاعدة المطردة حمل الشيء على حقيقته حتى يقوم دليل على إرادة المجاز، وأن سبب فزع داود عليه السلام، هو مجيئهما من غير الباب، فظن أنهما أرادا به سوء حينما تسورا المحراب، وإن القول بأن ذنب داود عليه السلام هو سماعه من الخصم الأول دون سماع الثاني غير صحيح، فإن هذا يطعن في عدل أي قاض، فكيف بنبى الله داود عليه السلام، الذي أثنى الله تعالى عليه بالعدل وحسن القضاء.
ولم يذكر الله تعالى ما هو ذنب داود عليه السلام الذي استغفر منه، لذلك لا داعي للخوض في الحدس والظنون للبحث عن ذلك، وتحميلِ الآيات ما لا تحتمل, والتوبة ليست مقصورة على التوبة من الذنب، بل التوبة قد تكون من البعد عن ذكر الله تعالى مدة من الزمن كما يقول الخارج من الخلاء “غفرانك” وقد تكون التوبة من التقصير في الطاعة، كما قيل “حسنات الأبرار سيئات المقربين”و قال بعض المفسرين “وهذا الذنب الذي صدر من نبى الله داود عليه السلام، لم يذكره الله لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصه الله علينا من لطفه به وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها” وأما عن القصة الثانية في قوله تعالى فى سورة الأنبياء ” وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ” وتحكي هاتان الآياتان خبر حادثة عدت فيها غنم أحد الخصمين في الليل على زرع الخصم الآخر فاحتكما إلى داود عليه السلام، فكان حكم داود أن تدفع الغنم إلى صاحب الزرع، لسبب اقتضى عنده ترجيح ذلك، ولعل السبب أن ثمن تلك الغنم يساوي ثمن ما أتلفت من الحرث، فكان ذلك حكما عادلا في تعويض ما أتلف، وأما حكم سليمان عليه السلام، فكان أن رأى أن تدفع الغنم لأصحاب الحرث مدة عام كامل.
كي ينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها ويدفع الحرث إلى أصحاب الغنم ليقوموا بإصلاحه، فإذا كمل الحرث ورجع إلى حالته الأولى عاد إلى كل فريق ماله، فرجع داود إلى حكم سليمان ابنه لأنه أرفق بالخصمين، وإن كان قضاء داود صحيحا، إذ الأصل في الغرم أن يكون تعويضا ناجزا، ولذلك أثنى الله عليهما فقال ” وكلنا آتينا حكما وعلما ” وأن هناك قصة ثالثة في قضاء نبى الله داود عليه السلام، قريبة من القصة السابقة لم تذكر في القرآن، وإنما ثبتت في السنة، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، قال “بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى لا يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى” وقال العلماء أنه يحتمل أن نبى الله داود عليه السلام، قضى به للكبرى، لشبه رآه فيها، أو أنه كان في شريعته الترجيح بالكبير، أو لكونه كان في يدها، وكان ذلك مرجحا في شرعه, وأما نبى الله سليمان عليه السلام فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية، فأوهمهما أنه يريد قطعه ليعرف من يشق عليها قطعه فتكون هي أمه.
فلما أرادت الكبرى قطعه عرف أنها ليست أمه، فلما قالت الصغرى ما قالت عرف أنها أمه، ولم يكن مراده أنه يقطعه حقيقة، وإنما أراد اختبار شفقتهما لتتميز له الأم، فلما تميزت بما ذكرت عرفها، ولعله استقر الكبرى فأقرت بعد ذلك به للصغرى، فحكم للصغرى بالإقرار لا بمجرد الشفقة المذكورة، وأما عن سبب نقض نبى الله سليمان لحكم أبيه عليهما السلام، فقد قيل إن داود لم يجزم، أو أن كلامه في القضية فتوى لا حكم، أو لعله كان في شرعهم نسخ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حاكم آخر يرى خلافه, وإن نبي الله داود عليه السلام لم يلهه ملكه وحكمه عن الإكثار من عبادة ربه تبارك وتعالى، فقد كانت روحه المتألقة في سماء الطاعة تزداد رقيا وصعودا على أجنحة العبادة ومعارج الخلوة بربه سبحانه وتعالى, ولذلك كان ذا عبادة عظيمة، وتزلف كثير ولهذا أثنى عليه الله سبحانه وتعالى بكثرة التوبة والرجوع إليه، فقال سبحانه وتعالى فى سورة ص ” اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ” وقد أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحسن الصيام والصلاة، وأخبر أن خير الصلاة النافلة في الليل صلاته، وخير الصيام المستحب صيامه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه” متفق عليه.
وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي كان يديم الصيام ” فصم يوما، وأفطر يوما، وذلك صيام داود، وهو أفضل الصيام” قلت إني أطيق أفضل منه يا رسول الله، قال “لا أفضل من ذلك” متفق عليه، ولقد جمع الله تعالى لنبيه داود عليه السلام، خيري الدنيا والدين، فقد أنعم عليه بنعم كثيرة، قال تعالى فى سورة سبأ ” ولقد آتينا داود منا فضلا ” وذكر ذلك أيضا ابنه سليمان عليه السلام في معرض التحدث بالنعمة والشكر لله عليها، كما قال الله تعالى فى سورة النمل ” ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عبادة المؤمنين ” فمن تلك النعم، هى القوة العلمية، فقال الله تعالى فى سورة البقره ” وعلمه مما يشاء ” وقال الله تعالى فى سورة النمل ” ولقد آتينا داود وسليمان علما ” وهذا العلم يشمل العلم بدين الله تعالى، والعلم بتدبير أمر الملك، والعلم بمنطق الطير، والعلم بمعرفة تسبيح الجبال معه، والعلم بصناعة الدروع الحصينة الخفيفة على حاملها، فقال الله تعالى ” يا جبال أوبى معه والطير وألنا له الحديد ” وقال تعالى فى سورة ص ” إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق ” وقال أيضا ” والطير محشورة كل له أواب ” وأيضا أعطاه الله تعالى القوة البدنية، وتشمل هذه القوة، على القدرة العظيمة على صناعة الدروع فكان الحديد في يده كالعجين يتصرف فيه كما يشاء، فقال تعالى ” وألنا له الحديد “
وتشمل كذلك القوة العسكرية بقتله جالوت، والقوة على كثرة العبادة من صيام وصلاة وغيرها مع انشغاله بالملك، وأعطاه الله تعالى قوة الملك بتسخير الأسباب المادية والمعنوية ليقوى ملكه من كثرة الجنود، وحسن السيرة، والعدل والفصل في الخصومات, فقال الله تعالى ” وشددنا ملكه ” وقد أعطاه الله تعالى الإصابة في القول والفهم في القضاء، فقال تعالى ” وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ” وأعطاه الله تعالى المنزلة العالية عند الله تعالى، فقال تعالى ” فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ” وأعطاه الله تعالى البركة في الوقت وتيسير القراءة عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال “خُفف على داود عليه السلام القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه” رواه البخاري, والمراد بالقرآن هنا التوراة أو الزبور، وقرآن كل نبي يطلق علي كتابه الذي أوحي إليه، وقيل المراد بالقرآن هو القراءة، وقد أعطاه الله تعالى أيضا حسن الصوت، فقد كان داود عليه السلام ذا صوت جميل، فكان إذا رجّع التسبيح والزبور بصوته الشجي رجّعت الجبال والطير مثل تسبيحه طربا لصوته, فقال الله تعالى فى سورة الأنبياء ” وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ” وقال تعالى ” إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق ” وقال تعالى ” والطير محشورة كل له آواب “
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعرى رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي موسى “لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود” قال العلماء “المراد بالمزمار هنا الصوت الحسن، وأصله الآلة المعروفة وأطلق اسمها على الصوت للمشابهة، وآل داود هو داود نفسه، وآل فلان قد يطلق على نفسه، إذ لم يعرف من أقاربه أنه أعطي من حسن الصوت ما أعطي” ولقد عاش نبي الله داود عليه السلام مائة سنة, كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله، فحمد الله بإذنه فقال له ربه يرحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس فقل السلام عليكم، قالوا وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه فقال إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم، فقال الله له ويداه مقبوضتان اختر أيهما شئت، قال اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته فقال أي رب، ما هؤلاء؟ قال هؤلاء ذريتك، فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم أو من أضوئهم قال يا رب، من هذا؟ قال هذا ابنك داود، وقد كتبت له عمر أربعين سنة، قال يا رب، زد في عمره قال ذاك الذي كتبت له قال أي رب، فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة قال أنت وذاك” رواه الترمذي وأحمد والحاكم والبيهقي وابن حبان.
إرسال التعليق