الإسكندرية.. مدينة الحب والفقد


جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الإسكندرية مدينة الشرق والغرب، مدينة الفلاسفة والقديسين والأولياء، مدينة عشاق الحياة والصوفية الزاهدين، مدينة الوثنيين والموحدين، مدينة العقلاء والمجانين، مدينة كل شيء ونقيضه. وتلك التناقضات الإنسانية والثقافية جوهر روح وخصوصية الإسكندرية التي اكتسبتها منذ تأسست في القرن الرابع قبل الميلاد على سواحل مصر الشمالية بعد أن طافت كحلم في خيال قائد عسكري قلقٍ لا يهدأ عقله ولا يستقر جسده في مكان، هو الإسكندر الأكبر.

وقد أدرك الكثير من الشعراء والروائيين هذه الخصوصية السكندرية، وكتبوا عنها في أعمالهم، وجعلوها قاسمًا مشتركًا في حياة ومصائر أبطالهم من سكان المدينة؛ مثلما فعل الأديب الإنجليزي لورنس داريل في رباعيته الشهيرة عن الإسكندرية، خاصة في جزئها الأول الذي حمل عنوان بطلته “جوستين”، التي وصفها داريل ببراعة رابطًا بينها وبين مدينتها فقال عنها: “هي امرأة تجسدت في شخصيتها كل تناقضات مدينتها”.

وأظن أنّ رواية “عصافرة قبلي” الصادرة عام 2017 للروائي مختار سعد شحاته، لو قُدّر لها المُتابعة النقدية التي تليق بها، ستحتل في تاريخ الأدب – الذي جعل من الإسكندرية فضاءً للسرد – مكانة كبرى؛ ففيها نجد روح المدينة وتناقضاتها المنعكسة في حياة أبطالها.

كما نجد أسماء وملامح الأحياء والشوارع والمعالم الجديدة في المدينة، مثل العصافرة قبلي والمندرة قبلي، وشارع المعهد الديني، وشارع العشريني والثلاثيني، وشارع الملاّحة، وشارع 45، وشارع النبوي المهندس، وكلية الدراسات الإسلامية، ومستشفى المعمورة، ومساكن طلعت مصطفى. كما نجد أيضًا حي بحري الشعبي، وحي كفر عبده الراقي، والمساجد الأثرية القديمة، التي تحتوي على مقامات أبرز رجال التصوف السكندريين مثل المرسي أبو العباس وياقوت العرش.

تدور الرواية عن قصة حب من نوع خاص بين “شوق سالم” الفتاة الأرستقراطية ابنه حي كفر عبده الراقي، المسكونة بالشوق والموعودة بالفقد، وبين حبيبها “يونس عمر” الطبيب الصعيدي ممصوص القوام، وشبيه “ذي النون المصري”، الذي ترك الصعيد الخانق القاسي ليبحث عن أفق أكثر رحابة لروحه وعقله، وعن مستقر لجسده في مدينة الإسكندرية، التي تحولت بدررها في حياته إلى سراب ومدينة للفقد وخيبة الأمل.

الفكرة الرئيسة للرواية تدور حول مفارقة الحب في الزمن والمكان الخطأ؛ وهو الحب الذي يأتي على غير توقع أو انتظار، فيُحيي في الإنسان ما مات من مشاعر واحتياجات، ويُعطي الحياة معنى وقيمة، والذي ينتهي رغم ذلك بالفراق والفقد والجنون، ويجعل أبطاله يصرخون في صمت: لماذا أدخلتنا يا الله في التجربة؟!

وقد جعلت تلك المفارقة وقسوتها، والهزائم وتراكمها، بطل الرواية يونس عمر يُخاطب حبيبته السكندرية شوق سالم، فيقول: “لماذا تأكل مدينتكم الفرح النابت في روحي؟! ولماذا باتت مدينة للفقد؟! أنا تعبت يا شوق، أقسم لك حتى لو كان خلاصي في ذهاب العقل فليكن”.

ورغم أنها كانت تُعاني مثله من مرارة وقسوة الواقع، فقد حاولت شوق سالم بطبيعتها الصوفية الرائقة أن تخفف عن يونس عمر قسوة تلك التساؤلات، وأن تدعوه للتسليم بالقدر والمكتوب، وامتلاك القوة لقبول ما لا يُمكن تغييره، ولهذا قالت: “كل ذلك كان وعداً علينا يا يونس، لا نملك من الأمر شيئا يا حبيبي، لا نملك… إسكندرية ببحرها الرحب ضاقت عليكم، وما بلت ريق للمحبين منكم يا أهل الصعيد”.

بعد ذلك نكتشف أن يونس عمر قد هرب من قسوة مفارقات القدر، وقسوة الجغرافيا الباطلة، ومن شطط الأسئلة المرهقة للعقل والروح إلى الجنون – مثلما فعل هاملت في تراجيديا شكسبير الشهيرة – واختفى من دون يعلم أحد مكانه، لكنه غادر بعد أن ترك لحبيبته مذكراته التي حملت عنوان “دفتر العاشق القروي”، والتي أصبحت زاد الحبيبة على مدار فترة غيبته الجسدية التي استمرت أكثر من عشرَ سنوات.

وطوال تلك السنوات العشر لم تيأس شوق سالم من البحث عن حبيبها الغائب، ولم يفارقها يومًا صوته وملامح وجه، ولم تتوقف عن قراءة مذكراته وعن طرح الأسئلة الوجودية المُرهقة للروح والعقل التي عذبت من قبل حبيبها، مثل قولها: “أنا هنا الآن وحدي، لا أعرف الحكمة في كل ما حدث، ولا أدرك السبيل للخلاص من كل ذلك الوجع؟ تتداعى الصور والأحداث كلما قلبت أوراق الكتاب، وتعود للحياة مشاهدي من جديد، فأشعر بخصومة تتسلل إلى قلبي… لماذا حرمتني وحرمت قلبي أن تدوم سعادته؟”.

وقد ظلت شوق سالم تبحث عن حبيبها الغائب لأكثر من عشر سنوات، وفي النهاية عرفت بالصدفة أنه مقيم بمستشفى المعمورة للطب النفسي، لكنه أصبح هناك غافلًا تمامًا عن ذاته وذكرياته والعالم من حوله، ورغم ذلك واظبت شوق بشكل مستمر على زيارته والجلوس معه والتحدث إليه.

ثم أخذت هي بدورها تهيم في عالم الوجد والعشق الصوفي ومقامات أولياء الإسكندرية، الذين وجدت في ملكوتهم راحة قلبها وعقلها، ووسيلة للتحرر من مفارقات الزمان والمكان والجغرافيا الباطلة وقسوة الأسئلة التي عذبتها مع حبيبها يونس عمر؛ ولهذا تُخاطب حبيبها الغائب عن العقل قائلة: “أنا الآن تمتد أمامي ساحة من براح عظيم صنعته بحكايتي معك، بكل جنون وبكل طيش، وبكل محبة، وبكل ما لم يفهمه من العالمين إلا من ذاق الكأس التي سُقِي منها الشاربون في تيه المحبة، فلا يعودون كما كانوا بعد أن يحجوا إلى قبلة قلوبهم وإن كانت في جسد الحبيب مخفية. ومتى ارتاحوا إليها كبروا للمحبة سبعًا، وطافوا وسعوا لتغفر لهم المحبة ما تقدم من ذنب البدايات، فعادوا مثلما أنا الآن، لم يمسسني سوء، بيضاء الروح شفافة”.

وبهذا الوعي والإحساس الصوفي الذي يُشبه ميلادًا ثانيًا، اكتملت حكاية يونس عمر وشوق سالم، وأصبحت صالحة لكي تكون أسطورة تُروى من بعدهم عن تناقضات الإسكندرية والحب والفقد والجنون، وعن مفارقات الزمان والمكان وقسوة الجغرافيا في حياة البشر، وعن الحب الصوفي الذي لا يكتمل إلا بأن يقول المُحب للمحبوب يا أنا.

source

إرسال التعليق

قد يعجبك ايضا