مهرجان البندقية السينمائي: فيلم "الرئيس"، صور الاستبداد من الشاه إلى القذافي
- Author, صفاء الصالح
- Role, بي بي سي / البندقية
يبني المخرج الإيراني محسن مخملباف صورة رئيسه المستبد من استعارات من كل صور الديكتاتوريات والاستبداد والتسلط التي عاشها عالمنا في القرنين الأخيرين، وإن كان مشهده الأخير يحيل بقوة إلى لحظة القبض على الرئيس الليبي السابق العقيد معمر القذافي.
ففيلم “الرئيس” الذي افتتحت به تظاهرة آفاق في الدورة 71 لمهرجان البندقية السينمائي، حرص أن يضع لافتة في بدايته تشير الى أن أحداثه لا تجري في بلد محدد، إلا أن مواقع تصوير الفيلم في جورجيا وصورة البيروقراطية العسكرية المتسلطة فيه تحيلنا إلى دول جنوبي الاتحاد السوفياتي السابق.
وتحيلنا خلفية المخرج السينمائي وصورة الحاكم المتجبر الذي لا يعرف، ويظن أنه معبود جماهيره، في الوقت الذي تمتلئ شوارع بلاده بالمنتفضين ضده، إلى أحداث الثورة الإيرانية عام 1979 واسقاط الشاه.
كما تفرض الأحداث الجارية في المنطقة العربية وسقوط بعض الأنظمة المستبدة فيها نفسها بقوة على سياق الفيلم، كما في مشهد النهاية الذي أشرنا إليه.
بيد أن ديكتاتور مخملباف يظل صورة استعارية سينمائية، تحمل ملامح من كل هؤلاء وتفرض خصوصيتها في مسار الأحداث في سياق النوع الفني نفسه، ونعني الفنون الأدائية في المسرح والسينما، وبما يذكر بأبطال التراجيديات المسرحية الكبرى، مع احالة شكسبيرية واضحة للملك لير.
ولمسة مخملباف المميزة في تلك الثنائية التي بنى عليها سرده بين الديكتاتورالمسن وحفيده الطفل الصغير، ثنائية الفساد والظلم مقابل البراءة واكتشاف الأشياء على حقيقتها.
وهذه الثيمة التي خبرها مخملباف جيدا، وباتت مفضلة لدى الكثير من السينمائيين الإيرانيين ومتنفسا لهم بعد الثورة الإيرانية لتقديم نقدهم للواقع القائم وتجاوز شروطه الرقابية الصارمة، في اختيار عالم الطفولة وبراءته كمقابل لفساد عالم الكبار وعنفه وظلمه وتسلطه.
فصبي مخملباف في هذا الفيلم يحمل في حكايته بعضا من ملامح سيدهارتا، في هذه الانتقالة من عالم الغنى الفاحش والسعادة المبهرجة المصنوعة إلى التعرف على حجم البؤس والمعاناة والظلم في حياة الناس اليومية، وهو هنا ظلم الديكتاتورية.
لقد قدم مخملباف في الطفل المعادل الموضوعي لشخصية الديكتاتور التي تزيف العالم، عبر اكتشاف الطفل لهذا الزيف بتجربة مباشرة وعلى المعاناة والظلم الذي يخلفه الاستبداد، ليصبح في نهاية الفيلم الشاهد الوحيد الذي عاش التجربة من كل جوانبها.
كما تعطي هذه الثنائية (الطفل ـ الديكتاتور) للسرد الفيلمي شحنة عاطفية مؤثرة طبعت مسار احداثه، ولمسة معالجة إنسانية تنقل الشخصيات من فضاء الصورة النمطية العامة عن المستبد إلى العلاقة الإنسانية اليومية. فالمستبد إنسان عادي من دون هالة القوة والسلطة التي تغلفه، يحب ويغضب ويندم ويحتال ويكذب ويسرق… الخ.
الديكتاتور “إنسان عادي”
الفرضية الثانية التي يبني عليها مخملباف سرده السينمائي، هي ما الذي يحدث للمستبد عند تجريده من هالة السلطة والقوة التي تغلفه، وكيف سيتحول إلى مجرد إنسان عادي، وما هو مسار سلوكه بين انماط الناس السلوكية، هل سيستحيل إلى رجل قاتل أو سارق أو لص ومحتال أو شخص يدعي المثل أو خليط من كل ذلك؟
إذ يمضي مخملباف في اختبار تجربة التجريد من السلطة إلى نهايتها بفعل الثورة وتحويل الديكتاتور إلى شخص مطارد ولص عادي ومتسول ومهرج وموسيقي جوال ومنتحل لصفة سجين سياسي، أي أنها ليست تجربة تجرد عن السلطة مؤقتة كتلك التي كنا نقرأها في التراث وحكايات ألف ليلة وليلة عن المستبد العادل الذي يتنكر ليرى حياة رعيته ويشاركهم همومهم.
يبدأ مخملباف فيلمه بمشهد لرئيس مستبد عجوز (الممثل المسرحي الجورجي ميشا غومياشفيلي) يطل من علو على عاصمته المنارة بالأضواء والنشرات الضوئية الاحتفالية، وليشرح لحفيده (أدى دوره بحضور مميز الطفل الجورجي داتشي ارفيلاشفيلي) لعبة السلطة وغوايتها، ويجعله يمارسها بأن يعطيه تلفونه الرئاسي ليأمر بإطفاء كل أضواء المدينة واشعالها بكلمة منه.
ومع تكرار اللعبة للطفل تنطفئ الأنوار كليا و لا تشعل بأوامر الطفل الذي استعذب اللعبة، بل نسمع صوت الرصاص والانفجارات. إنها الثورة.
ويرّحل الديكتاتور عائلته (زوجته وابنتيه) إلى الخارج في طائرة خاصة، إلا أن الطفل يصر على البقاء مع جده الذي كان على ثقة من أنه سيسحق التمرد ومن ولاء جيشه وتابعيه له، لكن كل شي يتغير بانقلاب الجيش عليه، ليتحول إلى مطارد مع بعض المقربين منه كسائقه وحارس أمنه الشخصي الذي يقتل دفاعا عنه.
يقدم المخرج هنا مشهدا مشوقا وعلى قدر كبير من الشد والتوتر الدرامي، مع ضياع الرئيس ومحاصرته بسيارته الكاديلاك الليموزين وسط الشوارع الممتلئة بالثوار والمتظاهرين.
وكان آخر المتخلين عن الرئيس، هو سائقه الشخصي الذي يتركه بعد هربه بدراجة نارية يسرقونها من رجل مار ويتجهون بها نحو منطقة نائية.
يحرص مخملباف هنا على أن يجسم الاحساس بصورة الديكتاتور كإنسان عادي بعد تجريده من السلطة، عندما يقضي الطفل حاجته ويصر على أن يقوم جده بتشطيفه، والنقاش بينهما وهو يطلب منه ذلك، ويخاطبه بسيادتكم في الوقت نفسه فيقوم بتشطيفه من بركة ماء مطر آسن قريبة.
ولا يخلو هذا الخيط الدرامي (العلاقة بين الرئيس وحفيده) الذي بنى عليه مخملباف خطه السردي الرئيسي من تأثر واضح بفيلم الكوميدي الايطالي روبيرتو بنيني الرائع “الحياة حلوة”، حيث يصور الأب المعتقل الحياة في معسكر الاعتقال النازي، بكل رعبها، كلعبة يجب على الطفل أن ينجح في الاختفاء فيها، عندما يصور الرئيس لحفيده الثورة والأحداث التي تحيط بهما كلعبة يجب على الطفل أن يتجنب أعداء الرئيس فيها.
وهنا تبدأ رحلة الرئيس في التعرف على البؤس الذي يعيشه شعبه والذي تسببت به سياساته ويخفيه جهازة البيروقراطي خلف الصورة المبهرجة لعاصمته.
فيتسلل الطفل عندما يرى فتاة تشبه صديقة طفولته التي كانوا يجلبونها لمراقصته وتسليته في القصر الرئاسي، وسط مجموعة من الأطفال الذين يعملون في مقالع حجارة في أقصى أوضاع البؤس، بينما يتحول الرئيس إلى شخص عادي بل ومجرد لص يسطو على أحد اكواخ هؤلاء العمال ليسرق متاعهم البسيط، فضلا عن غيتار موسيقى يستخدمه للتنكر في صورة عازف متجول.
كما يقوم بتسليب حلاق عجوز وابنه من ملابسهما بعد اجباره على حلاقة شعره وتغيير صورته. والطريف أن الحلاق في هذه المنطقة النائية لا يعرف بالثورة ولا يزال يعلق في قلب محله البسيط صورة كبيرة للرئيس.
رحلة العذاب
وبعد سلسلة أحداث ومفارقات في رحلة هرب الرئيس التي ينثر فيها المخرج صور بؤس الناس ومعانتهم الكبيرة، التي نتعرف عليها عبر عين الطفل وأسئلته البريئة، يذهب مخملباف في أطروحة الاستبدال تلك (الرئيس بمضطهديه،بفتح الهاء) إلى اقصاها، ليجعل الرئيس متنكرا وسط مجموعة من الهاربين من سجونه الراحلين إلى قراهم النائية، فيجعله يحمل على ظهره في رحلة طويلة أحد هؤلاء السجناء من الذين قلعت أظافرهم بالتعذيب وأصيبت أقدامهم بالغنغرينا، والمفارقة أنه أحد من قاموا بمحاولة اغتياله التي قتل فيها ابنه.
وهكذا تصبح حكاية هرب الرئيس حكاية إطارية يتكشف في سياقها عدد من الحكايات الفرعية لهؤلاء السجناء، كما هي الحال مع قصة السجين الذي يحمله والذي يحلم بالوصول إلى زوجته، وعندما يصل يطلب منهم أن يتركوه يمشي إلى البيت واقفا رغم عوق رجليه، وبعد أن يقع ويواصل طريقه زحفا الى الباب، ليكتشف أن زوجته قد تزوجت غيره، فينتحر. ومع مشهد دفنه يصل هذا الخيط الميلودرامي الى ذروته.
وبدت الميلودراما صبغة طاغية في الكثير من الحكايات الفرعية الأخرى التي قدمها المخرج لتصوير معاناة الناس، كما هي الحال مع مشاهد عناصر الجيش الذين يقومون بتجريد الناس من كل ممتلكاتهم البسيطة، ويصل هذا الخيط إلى اقصاه مع مشهد ايقاف حاجز تفتيش لموكب عرس وقيام ضابط الحاجز بمراقصة العروس واغتصابها وسط صمت الجميع، لتخرج العروس وتخاطبهم وتحاكم صمتهم.(ولعل تلك السمة الميلودرامية اضعفت الفيلم كثيرا).
وينهي مخملباف فيلمه مع مشهد اكتشاف الرئيس في مخبئه، بعد أن لمحه أحد الفلاحين يتنكر كخيال مآته عند مرور الجنود الباحثين عنه، فيبلغ سكان القرية الذين يطاردونه في لحظة وصوله إلى البحر منتظرا من سيأتي إلى تهريبه إلى بلد أجنبي.
هنا يعيد مخملباف بناء مشهد مشابه لمشهد إلقاء القبض على القذافي بعد اختفائة في نفق لمرور السيول تحت أحد الشوارع، ويبدأ الناس في ممارسة اقصى انواع العنف ضده، في خيارات متعددة بين أن يعدمونه مع حفيده، أو يقطعون رأسه بفأس او يحرقونه حيا، بينما يتعالى صوت أحد المعتقلين السياسيين، الذي كان مغيبا في سجونه، مطالبا بتحكيم صوت العقل وتجنب دوامة العنف والثار والقتل كي لا يستحيل من ثاروا ضده إلى قتلة مثله.
ويصل هذا الخط إلى ذروته عندما يضع السجين رأسه معه أمام الجمهور الهائج لقطعه، وليلقى الديكتاتور لاحقا مصيره على أيدي مضطهَدية، بينما ينتهي الطفل برفقة موسيقي وسجين سابق يغني له وهو يرقص أمام البحر في امتداده الشاسع.
الموقف من الثورة
اللافت للانتباه هنا موقف مخملباف من الثورة، التي يرى فيها امتدادا لعنف النظام القديم ويمارسه ضحاياه. فالديكتاتورية لديه تفسد حتى الضحايا وتدفعهم لتلبس صورتها بنزعة انتقامية تحرق الأخضر واليابس.
كما تعيد بنية النظام القديم انتاج نفسها في سياق الظروف الجديدة، (يخاطب السجين حشود الجنود المتحمسين لقتل الرئيس بأنهم كانوا بالأمس جنوده المدافعين عنه وأدوات قمعه)، فنرى المتمردين يمارسون قمع النظام السابق نفسه وعنفا ربما كان أقسى مصحوبا بنزعة انتقامية جارفة.
وعلى أهمية فيلمه ومعالجته الدرامية المميزة، لم يخل فيلم مخملباف من نزعة تبسيطية وتعميميه في تناول قضية كبرى كتب عنها الكثير في الفقه السياسي، أعني الاستبداد والديكتاتورية.
فبدا عند حدود المعالجة الخارجية لها وتقديمها في إطار عرض وسرد مشوق وسط شحنة تأثير عاطفي كبيرة وميل لا يمكن اخفائه لمعالجة ميلودرامية لبعض خطوطه السردية.
ولم يقدم غوصا عميقا يفكك جذور هذه الظاهرة ومسبباتها وآليات انتاجها الجمعية، بل ركز كليا على سياق فردي وعلى تقديم صورة الديكتاتور فردا وإنسانا مجردا من هالة السلطة (وهو ما نجح فيه كثيرا في فيلمه هذا)، وليس الديكتاتورية كبنية وآليات انتاجها.
على سبيل المثال لا الحصر، لم نجد أي اشارة لحياة الرئيس السابقة قبل السلطة، سوى في عودته إلى صديقة سابقة تعمل مومسا ونراها تعاني من أشد حالات العنف الجنسي على أيدي زبائنها من الجنود، وقد بدت معالجة هذا الخيط مربكة جدا، ومغرقة أيضا في المبالغة والميلودراما. كما ارتكب المخرج هنا خطأ في تتابع استمرارية المشاهد فنرى الرئيس يخاطبها وهي في الحمام تقوم بغسل نفسها من آثار عنف جنسي من زبائنها، وتنهض إلى غرفة ثانية ليقطع عائدا إلى مشهد نراه ممسكا برجلها وهي جالسة في الحمام، أي من المشهد السابق قبل نهوضها الى الغرفة!
ويجدر هنا التنوية بأداء الممثلة آيا سوخيتاشفيلي التي قدمت تجسيدا تمثيليا مميزا لدور المومس المضطهدة والمتعبة والمنتهكة جسديا.
ونضيف إلى ذلك أن تحولات انتفاضات ما يسمى بالربيع العربي، التي استلهم الفيلم بعض ملامحها، أفرزت واقعا أكثر تعقيدا بدت معالجة الفيلم مبسطة مقارنة بنتائجه وتحولاته.
ولا يخرج هذه الفيلم عن سياق تعامل مخملباف، الذي يحول انتاج الفيلم إلى شأن عائلي، يشاركه في انتاجه اعضاء آخرون من عائلته، وهم هنا زوجته، مرضية مشكيني، التي شاركت في كتابة سيناريو الفيلم معه، وابنته، هناء التي ساهمت في مونتاج الفيلم وابنه ميسم الذي شارك في الانتاج، وغابت ابنته سميرة التي باتت مخرجة معروفة يشار لها بالبنان.
بقي أن ننوه أيضا بكاميرا مدير تصوير الفيلم الجورجي قسطنطين إيسادزي (مواليد 1972) الذي نجح في تقديم مشاهد بانورامية مغبرة أومقتصدة في اللون جدا لتجسيد صورة الأرض الخراب التي خلفها الديكتاتور وواقع البؤس والمعاناة الذي يعيشه الناس، كما هي الحال في مشاهد عمل الأطفال في الحجارة أو تلك اللقطات العامة للأراضي الجرداء أو الحقول الزراعية اليابسة والأجواء المغبرة.
إرسال التعليق