مهرجان البندقية السينمائي: استلهام أفلام "الويسترن" في بيئة بدوية أردنية
بعد أكثر من نصف قرن على تصوير فيلم المخرج ديفيد لين “لورانس العرب” في البادية الأردنية، والمشاهد البانورامية الساحرة التي قدمها مدير تصويره فريدي يونغ في هذا الفيلم الملحمي، يقوم مخرج أردني بالتصوير في البادية ذاتها وفي وادي رم قرب موقع البتراء التاريخي الشهير في فيلم تشويق ومغامرة يضاف إلى الأفلام الأردنية التي تعد على أصابع اليدين طوال تاريخها منذ القرن الماضي حتى يومنا هذا.
ولفيلم “لورانس العرب” حضور كبير في الذاكرة الأردنية، فإذا كان موضوعه تي اي لورانس ودوره في الثورة العربية التي أعلنها الشريف حسين ضد الدولة العثمانية، فإن تصوير الفيلم نفسه كانت فاتحة لفت الانتباه إلى جماليات الصحراء والبادية الأردنية في السينما العالمية.
كما أن لحظات تصويره في الأردن (صور لين أيضا بعض مشاهده في اسبانيا والمغرب) حظيت بدعم سخي من الملك الاردني الراحل الحسين بن طلال، الذي زار مواقع التصوير غير مرة، وينسب البعض تعرفه على زوجته الثانية انطوانيت غاردنر التي تحولت بعد الزواج منه إلى الأميرة منى الحسين إلى هذه اللحظات، حيث أنها ابنة ضابط بريطاني رفيع عمل في الأردن وكانت تعمل ضمن كادر الفيلم حينها.
اليوم، يعود المخرج نادي أبو نوار إلى هذه الجغرافيا وإلى الفترة التاريخية ذاتها، أي عام 1916 وأجواء الثورة العربية، ليقدم فيلمه “ذيب” ولكن في سياق أفلام المغامرة والتشويق والسينما التجارية السائدة، ولكنه يراهن في الوقت نفسه على خصوصية البيئة المحلية ومعرفته بها.
يبدو الفيلم أقرب إلى فيلم من أفلام الغرب الأمريكي “الويسترن” منفذ في بيئة بدوية، ويبدو هذا هدف معلن لمخرج الفيلم الذي لا يخفي اعجابه بأفلام الوسترن والمخرج جون فورد أو المخرج سيرجيو ليوني.
ذئب الصحراء
واذا كان هذا هدف أبو نوار المعلن، فهو لا يدعي البحث عن أي رسالة ايديولوجية أو تعبير عن هم سياسي أو مشكل اجتماعي كتلك التي تمتلئ بها الأفلام العربية، لنقفز إذن إلى استنتاج هنا، قبل مناقشة التفاصيل الفنية للفيلم، لنقول أنه نجح في خلق فيلم مغامرات مشوق ينتمي إلى تيار السينما التجارية السائدة.
على الرغم من توقعنا أن الفيلم سيواجه كثير من المشكلات في العالم العربي، عند محاكمته في ضوء الاتجاهات الأيديولوجية والمواقف الفكرية السائدة، وفي محاكمة الأنماط التي قدمها للشخصية العربية فيه والملابسات التي تثيرها عند النظر إلى مجمل المرحلة التاريخية التي جرت فيها أحداث الفيلم.
وتتركز قصة الفيلم على الطفل “ذيب” المتعلق بأخيه الأكبر حسين، الذي يقود خطاه نحو عالم الرجولة وتعلم القوة والصبر ومستلزمات العيش في عالم الصحراء القاسي.
ومع وصول أحد الضيوف برفقة ضابط بريطاني إلى مضارب القبيلة، يتطوع حسين لأن يكون دليلهما في رحلة محفوفة بالمخاطر في البادية الأردنية.
ونعرف لاحقا من سياق الفيلم أن الضابط البريطاني كان يريد الوصول إلى ثوار الثورة العربية وايصال معدات وجهاز تفجير كما يبدو لمهاجمة سكة حديد الحجاز التي يستخدمها الجيش العثماني لنقل جنوده.
يصر ذيب على ملاحقة أخية والرجلين على حمار، فيضطرون إلى أخذه معهم، ووسط البيئة الصخرية الجرداء، يتحول الفيلم إلى فيلم مطاردات بظهور مجموعة من قطاع الطرق من البدو، أو من قبيلة منافسة، تهاجمهم قرب بئر للماء في المنطقة.
وينتهي الأمر بعد مناوشات بمقتل كل من الضابط الإنجليزي ومرافقه وحسن، ليبقى الطفل ذيب وحيدا في مواجهة اللصوص.
وبعد مطاردتهم له يسقط في البئر، فيقوموا بقطع حبل البئر وتركه لمصيره فيه.
وهنا تتركز أحداث الفيلم على الطفل ذيب في مواجهة هذه البيئة المقفرة، وكيف تنضج هذه التجربة فيه رجولة مبكرة، وتبعث فيه شجاعة لمواجهة قسوة الموقف والطبيعة، ولعل تلك التجربة كان يمكن أن تشكل مادة فيلم على قدر كبير من العمق وتقديم معالجة لعزلة إنسان (طفل) في مواجهة قسوة الطبيعة.
بيد أن المخرج، كما أشرنا، يهدف إلى صنع فيلم مغامرة وتشويق، لذا يعيد أحد اللصوص مصابا ومغمى عليه، ونستنتج هنا أن بقية اللصوص قد اختلفوا بينهم على الغنيمة وقتلوا بعضهم.
وهنا تبدأ علاقة صعبة في صورة كر وفر بين الطفل واللص، تنتهي بأن يقبلا العيش معا لحاجتهما إلى بعض في مواجهة الطبية القاسية.
وبعد أن يساعد الطفل اللص في استخراج الرصاصة من رجله ينطلقان معا في رحلة، تنتهي عند مقر حامية الجيش العثماني في المنطقة، حيث يقوم اللص ببيع ما سرقه من الضابط الإنجليزي لضابط الحامية العثمانية، فيقوم الطفل ذيب باطلاق النار عليه بعد خروجه من مقر الحامية انتقاما لمقتل أخيه.
ويثير هذا المشهد أكثر من تساؤل بشأن اختيار هذه اللحظة، بعد بيع الأشياء المسروقة للعثمانيين، رغم أن اللص قد وثق بذيب الذي توفرت له أكثر من فرصة للتخلص منه قبل ذلك، كما هي الحال مع لقاء البدو الثوار الذين يفترض أنهم أقرب إلى عشيرة أهل ذيب المتعاطفة معهم.
جماليات البادية
بعيدا عن أي مناقشة لمضامين الفيلم، يمكن القول إن أبو نوار تمكن في تجربته الإخراجية الأولى قيادة كادر فني أجنبي على قدر معقول من الاحتراف سمحت به امكانياته الانتاجية، لصنع فيلم مغامرة مشوق ناجح.
وشمل الكادر مدير التصوير النمساوي فولفغانغ تاله والموسيقي البريطاني جيري لين والمصممة آنا لافيل والمونتير روبرت لويد.
ونجح عبر مدير تصويره فولفغانغ تاله في أن يسثمر جماليات البيئة الصحراوية في البادية، وطبيعة وادي رم المميزة، لاسيما تلك التلال والمرتفعات الحجرية فيها، ويعكسها عبر لقطات عامة غنية عبرت عن أزمة الشخصيات وعزلتها ضمن بيئة قاسية.
على أن خبرة تاله كمدير تصوير تتركز في عالم التلفزيون والأفلام الوثائقية، ومنها فيلم ” شهرة مومس” الذي حصل عليه على جائزة أفضل تصوير في جوائز السينما في النمسا عام 2011.
وقدم جيري لين موسيقى تصويرية ركزت على تعزيز طابع التشويق في مشاهد الفيلم المتوترة والضياع في الصحراء، ولم يوغل لين في اكتشاف العناصر الموسيقية المحلية واستثمارها في عمله.ويمثل “ذيب” أول تجربة له في وضع موسيقى فيلم روائي، بعد أن وضع موسيقى عدد من الأفلام الوثائقية والقصيرة والبرامج التلفزيونية.
تركز عمل أبو نوار على تقديم الخصوصية المحلية وجعلها محور فيلمه، وهي هنا البيئة البدوية الاردنية، التي نهل فيلمه كثيرا من موروثها الشفاهي وعاداتها وتقاليدها وشعرها البدوي وغنائها ونثره في ثنايا فيلمه، الذي افتتح بمقولة من هذا التراث الشفاهي، واستثمر مقولات أخرى في سياق الفيلم.
ويعرف أبو نوار أن تلك هي نقطة قوته الأساسية وما يشكل مصدر الدهشة والاكتشاف للآخرين عن بيئة يجهلون تقاليدها وعاداتها وتفاصيل حياتها اليومية الخاصة.
ولا شك أنها عودة للجذور بالنسبة لأبي نوار الذي ولد في بريطانيا وعاش فيها طفولته حتى العاشرة، ليعود بعدها إلى الأردن ويقضي بقية حياته متنقلا بين البلدين.
وقد استعان بمنتج محلي على معرفة دقيقة بالبيئة البدوية في مساعدته في العثور على أشخاص ما زالوا يعيشون التقاليد البدوية على أصولها، في وقت باتت فيه نادرة بعد استقرار معظم القبائل البدوية وسكن الكثير من ابنائها في مدن وبلدات الأردن.
ويقول أبو نوار في إحدى مقابلاته إنه قضى فترة 6 أشهر إلى سنة في مرحلة البحث اثناء إعداد السيناريو الذي اشترك في كتابته، كما الانتاج، باسل غندور عبر شركته “بيت الشوارب”، قبل أن يقضي سنة أخرى من المعايشة في بيئة انتاج الفيلم.
ووفق هذا السياق، حرص أبو نوار على ألا يلجأ إلى ممثلين محترفين لتجسيد أدوار فيلمه بل أن يكتشف ممثليه من الناس العاديين الذين يعيشون في البيئة البدوية نفسها وفي محاولة لتحقيق أكبر قدر من الواقعية وتجنب مشكلات عدم اتقان تفاصيل العيش والتصرف في بيئة على قدر كبير من الغنى الاشاري في اعرافها وتقاليدها وسلوك افرادها.
ومن الصعب لغير البدوي إتقان هذه الأعراف (الاشارية) الغنية. (لقد ظل بدو الأردن يتندرون على الممثل القدير بيتر أوتول عندما مثل لورانس العرب وكان يستعين بوسادة اسفنجية عند جلوسه على ظهر الجمل، فلقبوه “أبو اسفنجة”).
واجتهد كل من الصبي جاسر عيد الذي جسد شخصية ذيب وحسن مطلق وحسين سلامة في تجسيد أدوار الفيلم، بعد أن أدخلهم المخرج دورة لتعلم التمثيل لغرض التمثيل في الفيلم، فبدا أدائهم مقنعا، رغم بعض الهنات البسيطة، ونجحوا في تجسيد أدوارهم بحضور مميز على الرغم من أنهم لم يمثلوا سابقا.
بدأ أبو نوار حياته المهنية عام 2005 بعد تخرجه من ورشة السرد لكاتبي السيناريو التي اقيمت في الأردن بالاشتراك مع مؤسسة “صندانس” السينمائية، و”ذيب” هو باكورة انتاجه في مجال الفيلم الروائي الطويل بعد فيلمه القصير “موت ملاكم” عام 2009، وهو مساهمة موفقة على صعيد بناء السينما الأردنية، التي بدأت في السنوات الأخيرة بتقديم عدد من المحاولات الواعدة.
إرسال التعليق