"أنت تركت الحصان وحيدا":سميح القاسم التحق برفيقه الأزلي
- Author, أنور حامد
- Role, بي بي سي-لندن
ألفا خطواتهما الأولى معا: في السياسة والشعر والحياة، ثم افترقا، في الواقع والمجاز، لكنهما بقيا يتجاذبان ، ويتعاتبان، يقتربان حينا ويبتعدان في حين، وبقيا كذلك، حتى في الموت: رحل محمود درويش، تاركا الحصان وحيدا، ليمتطي سميح القاسم صهوته ويرحل في إثر رفيقه.
ولد سميح القاسم عام 1939 وخطا أولى خطواته في قرية الرامة في فلسطين، وفي مدارسها بدأ يخط الكلمات الأولى، ثم تابع دراسته في الناصرة.
بعد سنوات تسع حصل الزلزال، وقلب حياة الفتى، كما غيره، رأسا على عقب، وربما خط طريقه اللاحق، في الشعر والسياسة، الذين امتزجا منذ البداية، فكان هناك فيض من القصائد التي أطلق عليها النقاد العرب خارج السياج “شعر المقاومة”، وضموا إلى هذه الفئة أشعار سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد وغيرهم.
صدر له أكثر من 60 كتاباً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة.
شاعر المقاومة كان سميح في رأي البعض، ولم يكن يتقبل الوصف بغير تحفظ، فحسه الشعري والنقدي يقول إن ذلك ربما تضمن اتهاما لقصائده بالمباشرة.
هو لم يكن حريصا على نفي هذه “التهمة” بحدة وجمود، وأصدق ما يعبر عن مفهومه للمباشرة (الخلاقة) مقولة كتبها في مقدمة أحد دواووينه (اختار له عنوان “ديوان الحماسة”). كتب في مقدمة الديوان يقول “هناك سوناتا سيئة ومارش جيد”.
استعار في المقولة السابقة لغة الموسيقى ليعبر عن مفهومه للمباشرة التي لا تعني بالضرورة السقوط في “العادية”، هو يتحدث عن “المباشرة السهلة الممتنعة” ويستشهد في إحدى مقابلاته بشعراء عالميين كبار ، كـ لوي أراغون وناظم حكمت، الذين يرى أنهما اعتمدا المباشرة في أشعارهما، دون أن تفقد تلك الأشعار “الدهشة الشعرية”.
تعددت صفات الشعر الذي كتبه سميح القاسم بتعدد الرؤى النقدية، فما بين صفة “الشعر المقاوم” التي اعتمدها الكثيرون و “ما بعد الحداثة” التي ذهبت إليها الشاعرة والباحثة سلمى الخضراء الجيوسي لتعتبره “الشاعر العربي الوحيد الذي تظهر في أشعاره ملامح ما بعد الحداثة”، اتسع ما كتب في شعره لأكثر من صفة.
وكما رفض لبس ثوب الشاعر المقاوم دون أن يسمه بسماته الخاصة، كان له رأي في موضوع الحداثة وما بعد الحداثة.
قال في مقابلة أجراها معه عثمان حسن ونشرت في جريدة الدستور “هناك فرق بين استهلاك الحداثة وبين الاستحداث، والحداثة تنبع من الداخل وهي ابنة العصر. في هذا الصدد انا ازعم ان الاغلبية الساحقة من افراد امتي ما زالت تراوح في حدود القرن الرابع عشر ووعي القرن الرابع عشر واخلاقيات القرن الرابع عشر وايضا هواجس القرن الرابع عشر”.
يشير سميح القاسم هنا إلى مأزق ثقافي عربي بامتياز، نجده حاضرا في التجارب الشعرية والمسرحية والروائية: كيف تكون “كاتبا ما بعد حداثي” في مجتمع يراوح في ثقافة الإقطاع” ؟
فكما عانت تجارب المسرح العربي و “تجريبيته” انفصاما عن الثقافة السائدة، كذلك لا بد للشاعر الذي ينهل من الثقافة العالمية ويتأثر بها بينما هو أسير ثقافة مجتمعه أن يقع في الاغتراب الإبداعي.
ويعتقد سميح في نفس المقابلة السابقة أن بالإمكان تجنب هذا المأزق بأن يستقي الشاعر حداثته من التراث ولا يسقطها على شعره إسقاطا.
رفيق الدرب
كان والشاعر محمود درويش رفيقين في الحزب الشيوعي وفي الصحافة (أسهَمَ في تحرير “الغد” و”الاتحاد” )، وفي “الشعر المقاوم”.
فبين “يا عدو الشمس إني لن أساوم ولآخر نبض في عروقي سأقاوم” لسميح و “سجل أنا عربي” لمحمود هناك أكثر من سمة مشتركة: الغنائية والمباشرة والتحدي، وكلها صفات وليدة لوضع عاشه الشاعران معا: مقاومة طمس الهوية القومية، القمع، تقييد الحريات التي كان الفلسطينيون يعانون منها في السنوات الأولى بعد تأسيس دولة إسرائيل.
بقي الشاعران يمارسان نشاطهما في صفوف الحزب الشيوعي، ثم قرر محمود درويش الانسلاخ عن الفضاء المشترك، حيث قرر في إحدى رحلاته إلى موسكو التوجه إلى القاهرة عوضا عن العودة إلى حيفا.
كانت هذه هي النقطة التي بدأ عندها مسارا الرفيقين في الابتعاد عن بعضهما، في الشعر والسياسىة والعلاقة الشخصية.
منذ رحلته الأحادية تلك بدأ محمود درويش بالابتعاد تدريجيا عن أسلوب بداياته الشعرية، متجها نحو الفلسفة والوجدانية والإبحار في جماليات اللغة، بينما بقي شعر سميح القاسم يتطور في نفس الاتجاه.
ولعل انعتاق محمود درويش من القيود الأيديولوجية ساهم في تحرير شعره بينما بقيت تلك القيود جاثمة على شعر سميح الذي بقي ملتزما بالحزب الشيوعي فترة أطول، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل شعره يتطور في نفس الاتجاه تقريبا.
وإذا تأملنا في الألقاب التي أسبغها عليه نقاد عرب مختلفون لرأينا أنه”شاعر المقاومة الفلسطينية” وهو “شاعر القومية العربية” وكذلك “شاعر الغضب الثوري” على حد تعبير الناقد المصري رجاء النقاش، وهو “شاعر الملاحم”، و”شاعر المواقف الدرامية” و”شاعر الصراع” كما يقول الدكتور عبدالرحمن ياغي، وهو ما يصب في الاستنتاج السابق.
حين رحل الشاعر محمود درويش قبل ست سنوات كتب سميح في رثائه قصيدة اختار لها عنوان “خذني معك” يطغى عليها طابع العتاب، وكان للعتاب مكان في علاقة الشاعرين على مدى سنوات الافتراق، لكنه في هذه القصيدة يعاتبه، مرة أخيرة، على رحيل أكثر إيلاما من أي رحيل سبق، فيستهل قصيدته قائلا:
تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني ووزرِ حياتي وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ، أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟ وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً، وآثَرتَ حُزني مَلاذا أجبني. أجبني.. لماذا؟.
وها هو الحصان لم يعد وحيدا، فقد امتطى سميح القاسم صهوته الأبدية، ليلتحق برفيقه الأزلي.
إرسال التعليق