مجدي درويش يكتب عن نبى الله داود ” الجزء الرابع “
ونكمل الجزء الرابع مع نبى الله داود عليه السلام، وقد خص الله نبيه داود بمزيد من فضله وظهر ذلك واضحا في المظاهر الآتية، أنه سخر الله له الجبال والطير تردد معه ذكره وتسبيحه، وقد ألان في يده الحديد فصار كالعجينة يصنع منه ما يشاء، وقد يسر له تلاوة الزبور، وآتاه الملك فجمع له الخيرين خير الدنيا والآخرة، وقد أنعم عليه بالقوة في البدن والحكمة في الرأس والعدل في الحكم، وقد أنعم عليه بالذرية الصالحة “وورث سليمان داود” وكذلك فإن شكر النعمة يمنعها من الزوال ويجلب المزيد، ويمنع النقمة، وبهذا قضى العزيز الحميد، فقال سبحانه ” وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد” وقليل من الناس من يعرف النعمة فيقر بها للمنعم سبحانه ويشكره عليها بوضعها فيما أمر سبحانه، وكان داود عليه السلام، من هذا القليل الشاكر، فاستحق من الله الثناء ” اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور” ولم يشكر اليهود نعمة الله عليهم بإنزال التوارة، فحرفوها وبدلوها ولم يعملوا بما فيها، ولم يشكروا نعمة الله عليهم بتتابع الأنبياء فيهم، فآذوا أنبياء الله حال حياتهم وبعد مماتهم، ومنهم من قتلوه، ومن ذلك ما فعلوه مع نبي الله داود عليه السلام، وهو المبجل فيهم، فوصفوه بالثائر السفاح الذي يحب سفك الدماء وإقامة الملك على جماجم البشر، وإن شئت التفاصيل فراجع العهد القديم، سفر الملوك الثاني، وكذلك ما نسبوا إلى نبيهم داود عليه السلام زورا وبهتانا.
وهو أن داود عليه السلام قد رأى امرأة جاره وهي تغتسل فأحبّها حبا شديدا، فأرسل زوجها في إحدى المعارك، وأمر القائد أن يجعله في المقدمة لعله يقتل فيتزوج امرأته، وتوراة اليهود التي كتبوها بأيديهم وليست التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام تمتلئ بهذه السفاهات التي أنزه سمع القارئ وبصره عنها فهم لم يتركوا نبيا إلا أساءوا إليه، بل لم يسلم الله سبحانه وتعالى من افتراءاتهم، فتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا” هذا أيضا مما تعلمناه من قصة داود عليه السلام، فعلى الرغم من كونه خليفة في الأرض وملكا على أمة امتد ملكها، إلا أنه كان يأكل من عمل يده “وألنا له الحديد ” أن اعمل سابغات وقدر في السرد، فكان عليه السلام يصنع الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها، وفي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده” وهكذا الأنبياء والصالحون، فمنهم من كان يرعى الغنم، ومنهم من كان نجارا، مثل نبى الله زكريا عليه السلام، ومنهم من عمل بالنجارة زمنا مثل نبى الله نوح عليه السلام، ومنهم من عمل بالتجارة فكان يبيع ويشتري في الأسواق، وكبار الصحابة رضي الله عنهم، كان الواحد منهم يعمل بيده ويحمل على ظهره ليكتسب قوته ويتصدق من عمل يده، فقد أرشدهم النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم إلى العمل وكسب القوت.
حتى ولو كان العمل في الاحتطاب، فلا غضاضة في ذلك، فهذا خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في ذلك، وأعمال الصحابة كذلك شاهدة على ذلك، فكانوا يتناوبون فيما بينهم في سماع النبي صلى الله عليه وسلم والجلوس عنده وفي طلب الرزق، ومن عجب أن يخفى ذلك على كثير من شبابنا ممن يدعون طلب العلم ويتخذونه حرفة لهم، حتى أصبحوا عالة على غيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولقد كانت من المعجزات المحسوسة أن ألان الله عز وجل الحديد لداود عليه السلام فجعله مطاوعا له يشكله كما يشاء، وهذه آية من آيات الله الكونية ودليل على قدرة الله سبحانه، فهو الذي جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم، وجعل الماء سلاحا أغرق فرعون، ونجا موسى، وألان الحديد لداود، وهكذا فلله جنود السماوات والأرض يفعل ما يشاء ويختار ولكن أكثر الناس يجهلون هذه الحقيقة، وإن من الفوائد ما ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، فقال في تفسير قوله تعالى”يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ” أن هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه، لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى عليه فيما حكم به، ونحو ذلك، وقد روى عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قال ” لو رأيت رجلا على حد, من حدود الله ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيرى”
وروى أن امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالت له احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده، فقال لها إن أردت أن أشهد لك فنعم، وأما الحكم فلا” وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد، وروي أن امرأة دخلت على نبى الله داود عليه السلام فقالت يا نبي الله ربك ظالم أم عادل ؟ فقال داود، ويحك يا امرأة هو العدل الذي لا يجور، فقال لها ما قصتك ؟ قالت أنا أرملة، عندي ثلاثة بنات أقوم عليهن من غزل يدي، فلما كان أمس شددت غزلي بخرقة حمراء، وأردت أن أذهب إلى السوق لأبيعه وأطعم أطفالي، فإذا بطائر انقض علي وأخذ الخرقة والغزل وذهب، وبقيت حزينة لا أملك شيئا أطعم به أطفالي، فبينما كانت المرأة مع داود عليه السلام في الكلام إذا بالباب يطرق على داود، فأذن بالدخول، وفوجئ حينها بعشرة من التجار، كل واحد بيده مائة دينار, قالوا يا نبي الله أعطها لمستحقها فقال داود عليه السلام، ما كان سبب حملكم هذا المال ؟ قالوا يا نبي الله، كنا في مركب، فهاجت علينا الريح، وأشرفنا على الغرق، فإذا بطائر يلقي علينا خرقة حمراء وفيها غزل، فسددنا به عيب المركب، فهانت علينا الريح، وانسد العيب، ونذرنا إلى الله أن يتصدق كل واحد منا بمائة دينار، وهذا المال بين يديك فتصدق به على من أردت، فالتفت نبى الله داوود عليه السلام إلى المرأة.
وقال لها ربي يجزيك في البر والبحر وتجعلينه ظالما ؟ وأعطاها المال، وقال أنفقيه على أطفالك، ولكن رأى العلماء فى هذا الحديث أنه لم نجد أثرا لهذه الحكاية في كتب العلماء ولم نقف لها على سند، فلا نعلم حقيقة أمرها ولا مصدرها، ويبعد تصديق مضمون هذه القصة، فإننا نستبعد أن ينتظر من على المركب أن يلقي إليهم طائر قماشا وغزلا يسدون به الخرق، فعيب المركب لا يسده الغزل، ولو كان كذلك لخلعوا بعض ثيابهم وأنقذوا أنفسهم من الغرق بها، ولم ينتظروا ذلك الطائر، وذلك القماش، وهي حكاية على كل حال، تروى من غير تصديق ولا تكذيب فالغالب أنها من الإسرائيليات التي جاز لنا حكايتها مع عدم الجزم بوقوعها، وإذا كان من يحكي هذه القصة، يريد أن يقول للناس إن الله تعالى يقدّر الخير للمؤمن من حيث لا يحتسب، ومن حيث يظن العبد أن هذا شر له، فهذا المعنى صحيح، وله شواهد من الكتاب والسنة، فقال الله تعالى فى سورة البقرة ” وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ” وقال الله تعالى فى سورة النساء ” فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا” وقال النبى صلى الله عليه وسلم ” عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ” رواه مسلم.
فعلى المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره، ويؤمن أن الله تعالى لن يقدر له إلا الخير، وأما عن قصة نبى الله داود عليه الصلاة والسلام، وفيها ما ذكرته، وأن المرأة التي رآها تغتسل وقعت في قلبه، فأوصى بأن يكون زوجها في مقدمة التابوت حتى يقتل في الحرب، وغيرها من التفاصيل، وهي من الإسرائيليات التي لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتي لا تليق بمقام نبي الله داود عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم حديثا لا يصح سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس، ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة، فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل، فما يذكره كثير من المفسرين عن قصة داود عليه السلام في عشق امرأة قائد الجند، غير صحيح، وقد أشار الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان إلى أن ما يذكر عن نبي الله داود عليه وعلى نبينا السلام مما لا يليق بمنصبه، كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معول عليه، وما جاء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا يصح شيء منه، وإن من الدروس العلمية أن العلم نعمة من الله تعالى على صاحبه، وهبة سنية منه وحده، فليس باستحقاق العبد ولا بقدرته ولا بذكائه، وهذا يجعل ذا العلم متواضعا.
لا يرى لنفسه أي موجب للكبر، بل يوجب عليه رد العلم إلى الله تعالى، ومن الدروس العلمية هو أن الإعلان بالعلم والتحدث به، إن كان من باب الشكر والتحدث بالنعمة لا يعدّ مذموما، إنما المذموم إظهاره شهرة أو رياء أو عُجبا, ولهذا أظهر داود وسليمان عليهما السلام نعمة العلم على اللسان شكرا لله تعالى، ومن الدروس العلمية هو أن الناس متفاوتون في العلم والفهم، فليسوا في مرتبة واحدة، ولو بين الأب وابنه، ولا يعني هذا التفاوت انتقاص المفضول بتقدم الفاضل، فلكل فضله، وإن نقص حظه في جانب ما كمل في جانب آخر، وهنا أعطى الله تعالى سليمان عليه السلام مزيد فهمٍ في القضاء يفضل أباه عليه السلام، وفي هذه السيرة العطرة لهذا النبي الكريم دروس في السياسة، فمن تلك الدروس أهمية وجود الحكم والدولة لحكم الناس وسياسة أمورهم، فقال ابن تيمية رحمه الله “يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، وتقتضي طبيعة الحياة السير على نظام يُبنى على سلطة حاكمة ومجموعة بشـرية محكومة، تدين بالطاعة لتلك السلطة، وتتولى هذه السلطة رعاية تلك المجموعة بما يضمن لها العيش بأمان واستقرار، فقد استقرت حياة بني إسرائيل في عهد النبيين الكريمين داود وابنه سليمان عليهما السلام.
إرسال التعليق